السلام عليكم
تعتبر الألغاز الشعبية في الإمارات نوعا من أنواع الثقافة الشعبية القديمة ، بل يعتبرها الكثير من الدارسين ترمومتر ثقافة الشعوب ، إذ من خلالها نتعرف على مستوى ما وصلت إليه ثقافة العوام وآدابهم ، فالألغاز تحتوي على معلومات متنوعة ، وموضوعات مختلفة ، إلى جانب تركيزها على التفكير والتأمل والمقدرة على التميز بين الكلمات المتناقضة ، والحروف المتعارضة في الجملة أو اللغز الواحد .
وقد عرف العرب فن الألغاز ومارسوه في مختلف الأوقات لإظهار القدرات الخاصة وللتنافس فيما بينهم والتباري في الإجابة عن طريق إظهار المهارة العقلية ونوعية الثقافة التي تتوفر لديهم .
وفي الإمارات انتشرت الألغاز في مختلف المجتمعات المحلية الداخلية ، وقد نستطيع أن نميز بين الألغاز عند سكان الساحل ( الحضر ) وألغاز البدو ( الصحراويين ) وألغاز المزارعين ( البيادير ) وألغاز ( البداة ) من سكان الجبال والمرتفعات .
وهذا التنوع في البيئات ساعد على تنوع الألغاز ووفرتها لدى مختلف الأنماط السكانية إضافة إلى تميزها بطابع البيئة واللهجة الدارجة وما تحتوي عليه من ألفاظ ومعان وصور بيانية معبرة عن هذه البيئات وخصوصيتها ، وقد عرفت الألغاز منذ قديم الزمان ، ووجدت مدونة في القصائد القديمة وفي أراجيز ومساجلات الشعراء القدامى ، كما حفظت ونقشت في المنحوتات واللقى الأثرية والكتابات القديمة التي تحمل بعضها ألغازا عن الحياة والكون والماء والمطر والجنة والنار ، ووردت الألغاز في الأذكار كالألغاز التي تتحدث عن الأقوام الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ ، ومنها الألغاز التي تشير إلى الطوفان وانشقاق البحر الأحمر عندما ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه ، وقد وردت هذه القصص في القرآن الكريم من خلال قصة فرعون والأحداث التي صاحبتها ، ووظفت بشكل جيد في تفسير الأحداث التاريخية التي وصلنا خبرها إما عن طريق الكتب السماوية أو التي وردت متواترة في الأذكار والأخبار والسنن والأحاديث .
واللغز من حيث المفهوم : الكلام المعمى أو الخفي أو المستتر ، وجمعه ألغاز ، والألغاز شبهت بالجحر الذي يحفره اليربوع في الأرض فيسلك فيه طرقات ملتوية حتى يخفي مكانه أو يضلل العدو عن مخبئه مثل جحر الضب والفأر .
وكل كلام غامض أو غير واضح يعتبر ألغازا ، لذا عندما يتكلم أحد الأشخاص بكلمات وألفاظ غير معروفة نقول كلامه ألغاز ، أي غير مفهوم ، وهناك فرق بين الألغاز التي تحتوي على سؤال محدد أو التي تتكلم عن موضوع معين بطريقة مستترة ، وبين الكلام والمرسل المتداول بين الناس ، لذا تنقسم الألغاز إلى عدة أنواع ، ولكن قد نستطيع أن نحددها في نوعين : ألغاز عامة ، ألغاز خاصة ، فالألغاز العامة هي التي يتداولها الناس ولا يعرف قائلها ، وهناك الألغاز التي وردت في دواوين وقصائد الشعراء وتسمى ( الألغاز الشعرية ) .
ومن خصائص الألغاز أنها ممعنة في الغموض والتناقض والبساطة في آن واحد ، وينطبق عليها هذا التعريب " السهل الممتنع " فهي سهلة وبسيطة في معانيها وألفاظها ، وحتما في وصفها للأشياء وتناولها للموضوعات المختلفة ، أما صعوبتها فتكمن في غموضها وتناقض ألفاظها ومعانيها .
واللفظ في اللغز قد يفسر بطريقة مغايرة بحيث لا يدل ذلك على معناه الذي يظهر فيه من أول وهلة ، فيشكل على السامع ، هنا يكمن الغموض ، إضافة إلى تميزها بالتناقض والإبهام والغموض ، ومن خصائص ومميزات الألغاز أنها تتكون من كلمات ومعان متناقضة أو مركبة بأيلوب يثير الدهشة ، وقد تحمل الألغاز صفة الاستفزاز والتناقض والوضوح في آن واحد .
لذا يعرف ابن أبي الإصبع اللغز قائلا : ( هو فن السؤال المحير والجواب اللازم المحدد )) .
وفي دراستي عن الألغاز الشعبية أشرت إلى نوعية الألغاز وفوائدها وأهميتها ومدلولها اللفظي ، إضافة إلى نشأتها وعمقها الثقافي ودرجة تعبيرها عن المجتمع التقليدي ، وبنظرة بسيطة في أنواع الألغاز الشعبية ومفهومها نستطيع أن نحدد أربعة روافد رئيسية ظهرت خلالها الألغاز في الإمارات ، فالألغاز ليست مجرد كلمات سطحية مركبة في صيغة سؤال وإنما لها جذور تاريخية لم يحاول أحد دراستها ، ومن مميزات الألغاز تنوع روافدها وموضوعاتها ، والروافد الأربعة التي تشكلت من خلالها الألغاز الشعبية في الإمارات هي :
1. رافد محلي ( شعبي أو تقليدي )
2. رافد عربي ( قومي أو مرتبط بما ورد في الأدب العربي )
3. رافد إسلامي ( ديني وما جاء في العقيدة والثقافة الإسلامية )
4. رافد عالمي ( دخيل بحكم الاحتكاك والتناقل الثقافي بين الشعوب )
وقد ساعدت هذه الروافد الأربعة على تنوع الألغاز وتعدد أغراضها وموضوعاتها واختلاف منبعها ومفهومها التاريخي .
وقد عرف شعب الإمارات الفنون اللغزية من خلال أدبياته وأسلوب حياته التقليدية ، لذا فالألغاز من حيث كونها أسئلة فهي تتناول مواضيع مختلفة يحيطها الغموض ، وفي كثير من الأحيان تتداول على الألسن ويحفظها الناس كما تحفظ القصائد أو الأمثال والحكايات والقصص الشعبية .
وتدل الألغاز في الإمارات على مستوى الثقافة الشعبية في ذلك الوقت ومدى تنوع موضوعاتها ، لذا هناك ألغاز الإنسان وطعامه وملابسه وألغاز الحيوانات والكائنات الحية وألغاز النباتات والأشجار والمنتجات ، وألغاز في الكون والفلك وفي تصوير المجرات الكونية مثل الشمس والقمر والنجوم ، وألغاز الظواهر الكونية كالليل والنهار والبرق والرعد والرياح والمطر ، وفي الأرض وما تحتويه مثل الجبال والبحر ، وألغاز في فنون القول والألفاظ .
وقد تنوعت موضوعات الألغاز فنجد لكل موضوع رئيسي مشتقات وحقولا وفروعا ، وما يميز الألغاز الشعبية أنها تعتمد على الرمز والتحور والتورية والإخفاء ، إضافة إلى احتوائها على فنون اللغة والمعرفة ، وتتنوع ألغازنا تبعا لموضوعاتها المختلفة ، لذا فدراسة الألغاز كفن أدبي تعطينا صورا واضحة عما وصل إليه الأدب الشعبي من تطور وازدهار ، فهو ليس أدب العوام كما يحلو للبعض أن يصف به الثقافة الشعبية ، لأن العوام كانوا أصحاب ثقافة وتجارب طويلة ومعرفة في كافة مجالات الحياة .
وعندما بدأت بجمع الألغاز منذ أكثر من عشر سنوات استوقفتني صورها وموضوعاتها وتعبيراتها المجازية ، وسلامة ألفاظها وجمالها الأدبي ، ومن خلال ذلك قمت بتحليل الكثير من الألغاز وذكرت خصائصها وفوائدها ، وكان ذلك جهدا علميا كبيرا تمكنت من الانتهاء منه وصدر في كتاب مختلف تماما عن الكتاب الذي بين أيدينا ، وإنما أردت أن تكون الثقافة الشعبية من خلال الألغاز التي جمعتها وأودعتها هذا الكتاب سهلة الوصول إلى الناس ، فهذا جعلني أكتفي بسرد أشهر الألغاز الشعبية القديمة في الإمارات ثم أتبعها بالحلول والإجابات عن كل لغز منها ، وبهذه الطريقة يستطيع الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم التعرف على الألغاز وحفظها وترديدها ، وكان ذلك هو الهدف من صدور هذا الكتاب الذي طلب مني الأستاذ عبد الله جاسم المطيري – مدير بيت سعيد بن مكتوم للتراث – نشره ضمن اهتمامات البيت بالموروث الشعبي المحلي ، لذا جاء صدوره متناغما مع العناية الواضحة من قبل حكومة دبي بإحياء تاريخ وتراص الإمارات بكافة ملامحه وصوره وأنواعه .
وستظل ألغازنا في ذاكرة الأبناء منقوشة في كل زاوية وكل حجر وكل ناحية ، وستظل معبرة عن ماضينا وتاريخنا الذي نفتخر به ، وذلك هو الهدف من إحياء التراث وحفظه وتقديمه للأبناء والأجيال حتى تظل الحياة مستمرة ومتصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل .